يقلم المستشار د. سري صيام .. التشريع‏..‏ وتحديات العولمة

التشريع هو مجموعة القواعد القانونية المكتوبة الصادرة عن السلطة صاحبة التشريع في الدولة‏,‏ وهو بهذا المعني لا يستغرق المفهوم الكلي للقانون‏,‏ باعتبار الأخير مجموعة القواعد العامة المجردة الملزمة التي تحكم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع بالتوفيق بين المصالح الاجتماعية‏,‏ أو بترجيح بعض هذه المصالح علي البعض الآخر وفقا لفلسفة قانونية تسود في المجتمع خلال فترة من فترات تطوره‏,‏ ومن ثم يمكن القول إن التشريع هو أحد مظاهر القانون‏,‏ وهو يحتل في الأغلب الأعم من الأنظمة القانونية مكانا بارزا كمصدر رئيسي من مصادر القانون‏.‏
ولئن كانت سلطة كل دولة علي مستوي المعمورة في سن تشريعاتها المحلية هي أحد أهم مظاهر سيادتها الوطنية‏,‏ إلا أن هذا المظهر من مظاهر السيادة لم يكن‏,‏ بعد زوال الاستعمار في شكله التقليدي‏,‏ بعيدا عن تأثيرات عصر العولمة الذي يعيش العالم أبرز تجلياته علي الصعيد الدولي في هذه الحقبة التاريخية المهمة‏,‏ بفعل الثورة الهائلة في مجال وسائل الانتقال عبر الحدود‏,‏ والتقدم المذهل في نطاق آليات الاتصال‏,‏ والتطور السريع المتلاحق في ميادين تقنيات وفنون المعلومات‏,‏ ونشوء نظم مالية عالمية متشابكة معقدة تنساب من خلالها الأموال عبر الدولة بسهولة بالغة‏,‏ بأساليب تتأبي علي الزمان ولا تعترف بحدود الأوطان‏.‏
ولقد امتدت تأثيرات عصر العولمة‏,‏ إلي جميع مناحي الحياة علي اتساع المعمورة من أقصاها إلي أدناها‏,‏ ومن هذه المناحي مجال التشريع بحسبانه أهم وسائل الضبط الاجتماعي في نطاق كل مجتمع‏,‏ إذ تحول التشريع ـ بفعل العولمة ـ إلي وسيلة مهمة من الوسائل المذكورة علي المستوي الدولي‏,‏ نتيجة تحول الكثير من الظواهر ذوات الحاجة الملحة إلي الضبط باستخدام التشريع من ظواهر محلية أو إقليمية إلي ظواهر دولية‏,‏ وما اقتضاه من ضرورة سن الأحكام الكفيلة بتنظيمها‏,‏ وصور السلوك الإجرامي التي تقتضي قواعد الشرعية الجنائية وضع النصوص اللازمة لتدابير مكافحتها وتحديد النماذج التشريعية للجرائم التي تشكلها والجزاءات المترتبة علي مقارفتها‏.‏
ويعيش العالم في المرحلة الراهنة‏,‏ والعالم العربي علي وجه الخصوص‏,‏ تداعيات القرار الصادر من الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بناء علي المذكرة المقدمة من المدعي العام للمحكمة بتوقيف الرئيس عمر البشير رئيس جمهورية السودان الشقيقة في حالة دارفور التي أحالها مجلس الأمن إلي هذه المحكمة‏,‏ رغم أن السودان ليس عضوا في نظامها الأساسي‏..‏ ولا ريب في أن ما يشهده العالم في هذه الآونة من أزمة اقتصادية ومالية طاحنة تتنامي تداعياتها وتتعدد آثارها المباشرة وغير المباشرة‏,‏ وتتسع مساحتها لتطال جميع الدول علي مستوي المعمورة متقدمة ونامية ومتخلفة‏,‏ سوف تضيف إلي تحديات الاتفاقيات الدولية الشارعة مجالات أخري لا سبيل فيها إلا التعاون الدولي المحكم ومن أهم أدواته التي يتواتر الحديث عنها التشريع‏.‏
وقد أدي ما سلف الإشارة إليه جميعه إلي التقليص المستمر لمساحة ممارسة الدولة لسيادتها التشريعية‏,‏ وما يرتبه ذلك من انحسار لمبدأ قومية التشريع لصالح عالميته‏,‏ وما يؤدي إليه في بعض الأحيان من تناقض بين المصالح الوطنية والمصالح الدولية‏,‏ يحتاج إلي توازن دقيق لا يخل بالالتزامات الدولية في إطار التشريع الدولي‏,‏ ويحقق في الوقت نفسه ـ وباتباع منهج رشيد في تنفيذ الالتزامات الدولية ـ أكبر قدر ممكن من حماية المصالح الوطنية‏.‏
وتتمثل وسائل وآليات مواجهة تحديات العولمة فيما يأتي‏:‏
‏(1)‏ الدراسة الواعية المتعمقة لتجليات العولمة في مجال التشريع‏,‏ والرصد الدقيق للمتغيرات والمستجدات الدولية في هذا الخصوص‏,‏ وإيلاء عناية خاصة للقواعد الحديثة في مجال سريان التشريعات الجنائية الوطنية من حيث المكان ومن جهة الأشخاص‏,‏ وكذلك المتعلقة بامتداد ولاية القضاء الجنائي الوطني علي ما يرتكب من الجرائم في الخارج ومن غير المواطنين‏,‏ واستنباط الأحكام المتعلقة بهذه القواعد من مصادرها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية الشارعة‏,‏ ودراسة التشريعات المقارنة التي تجاوبت مع هذه الأحكام وطرأت عليها التعديلات المحققة لغاية الوفاء بالالتزامات التي تفرضها هذه المواثيق وتلك الاتفاقيات‏.‏
‏(2)‏ الإحاطة الشاملة بالأحكام الموضوعية للاتفاقيات والمواثيق الدولية المشار إليها‏,‏ وعلي وجه الخصوص‏,‏ من حيث تدابير مكافحة الظواهر الإجرامية ذات الصبغة العالمية‏,‏ وأنماط السلوك التي دعت هذه الاتفاقيات والمواثيق الدول إلي تأثيمها وتقرير الجزاءات المناسبة لها‏,‏ وأساليب التعاون الدولي في شأن مكافحتها‏,‏ وإنفاذ الأحكام الصادرة من القضاء الأجنبي ضد مقارفيها‏,‏ وملاحقة الأموال المتحصلة منها واستردادها‏.‏
‏(3)‏ استطلاع آراء الوزارات المختصة في شأن وضع منهجية للعمل في مجال مراجعة التشريعات المصرية للوقوف علي ما يحتاج منها إلي تعديل‏,‏ وما يجب استحداثه للتوافق مع الاتفاقيات الدولية الشارعة‏,‏ وصياغة هذه المنهجية علي أسس علمية بعد أخذ جميع الاتجاهات والاقتراحات في الاعتبار‏.‏
‏(4)‏ إعطاء أولوية خاصة للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية‏,‏ ومراعاة شمول التشريع المصري للجرائم التي تدخل في اختصاص هذه المحكمة‏,‏ وملاحقة التطورات التي تطرأ علي هذه الاختصاصات علي ضوء أركان الجرائم التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف وما ينتهي إليه الأمر في شأن جريمة العدوان‏,‏ والاستعانة في ذلك بالقانون الاسترشادي العربي المتعلق بالجرائم المشار إليها لتجنب سلب المحكمة الجنائية الدولية للاختصاص القضائي الوطني‏,‏ والتحوط من تداعيات تسييس هذه المحكمة‏,‏ علي ضوء الممارسة في المرحلة السابقة‏.‏
والجدير بالذكر‏,‏ أن العولمة ومن تجلياتها عصر الاتفاقيات الدولية الشارعة الذي نعيشه في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة‏,‏ والتطورات المتلاحقة المتسارعة لبعض الظواهر الإجرامية الجسيمة‏,‏ وأبرزها تنامي الإرهاب واتساع نطاقه وتعدد صوره وأشكاله‏,‏ والعجز الواضح في مواجهته علي نحو يخرجه عن حدود السيطرة‏,‏ والأبعاد الوخيمة لتعدد أعمال القرصنة البحرية‏,‏ والفشل الذريع في مواجهتها‏,‏ بالإضافة إلي الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها العالم‏,‏ من شأنه جميعه أن يفرض علي مصر تحديات جديدة تتعلق في جانب كبير بالمواجهات التشريعية وفق أطر دولية قد لا تتفق في بعضها مع الذاتية المصرية‏,‏ وهو ما يفرض قدرا أعلي من الجهد الدءوب لتعظيم القدرات علي مواجهة تلك التحديات حفاظا علي الهوية المصرية‏,‏ وصونا لذاتيتنا‏,‏ وتأكيدا لقوميتنا إلي أقصي حد مستطاع في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها عالم اليوم الذي تشتد فيه الأعاصير وتهدر الأمواج‏.‏
الكاتب : مساعد وزير العدل لشئون التشريع